التواضع
الناس المعجبون بنفسهم كثر. كل هؤلاء يرون في ذواتهم قيماً نابعة من ذواتهم واذا كانوا كذلك دائما يفتخرون، يركّبون ذواتهم من مجموعة حسنات اذ يظنون انهم دون هذه الحسنات هم في العدم والإنسان لا يرغب في العدم. لذلك لا مفر من ان يكون معظم الناس الصورة التي اصطنعوها عن أنفسهم وغالبا ما يحسبون ان ليس مثلهم شيء. الانسان يخشى الموت المعنوي قبل خشيته الموت الجسدي. لذلك يحيا بهذه الجمالات التي تتراءى له فيه. هذا هو العُجب (بضم العين) الذي تليه الكبرياء التي يرى فيها الإنسان انه فوق القوم جميعا. هناك إذاً عبادة ما للنفس. هناك دائما شرك محجوب عن صاحبه. فالكبرياء في ذروتها ازدراء للآخر وتحقيق وثناء مقول أو غير مقول عن الذات.
وكثيرا ما تأتيك الكبرياء من المديح. ومن المديح يتولّد الغرور والطمع بالمقام الأول في هذا المجال أو ذاك. جاء عند القديس يوحنا السلّمي: "عاتب شيخ احد الإخوة على تكبّره معاتبة روحية. فأجاب الأخ: اغفر لي يا أبي فإني لست متكبرا. فقال له الشيخ الكلي الحكمة: يا ولدي أي برهان تعطينا على تكبّرك أفضل من قولك "لست متكبّراً"؟".
كل إنسان صريع الوهم. وينتج من هذا ان المتكبر يزدري الودعاء. ان مقت هؤلاء مقت للأقربين الى الله لأن الله وداعة. لذلك لم يخطئ آباؤنا لما اعتقدوا ان الكبرياء أكبر الخطايا لأنها في التحرك الوجداني أن احدا ليس مثلك وانك انت صائر مثل الله كما اعتقد آدم.
مشكلة المستكبر انه في كثرة الأحيان لا يعرف نفسه كذلك وان لم تهبط عليه نعمة من فوق لا يعرف التمييز في نفسه ويظن نفسه فقط موهوبا ولا يرى انه منتفخ بمواهبه أو ما ظنها كذلك. لذلك لا بد له من فضائل كالإحسان ليصلح نفسه اذا اعتبر ان الإحسان إلهام له من الله. وقد يُحْسِن أحيانا لأن هذا يزيده تعظما ولا يحس بأن من يحسن اليهم كثيرا ما يكونون أفضل منه على كل وجه. الجمالات الروحية يجب أن ترسو على التواضع والا كانت رذائل مبطّنة. هذا يرى نفسه مثلا لا يزني ولا يسرق ولا يكذب لكن هذه المحظورات لا نفع فيها ان كانت تقوي استكباره. فقد علّمنا أهل القداسة انك ان عففت مثلا وبقيت غير محب فقد هتكت عفتك ولست بشيء. المحبة وحدها تضرب الكبرياء وتمزقها لأنها اعتراف بالآخر وهذا الاعتراف هو الذي يوجدك. كتابنا يبيّن لنا كيف نهرب من الزنا وبقيّة الخطايا وقد وضع آباؤنا قواعد لهتك الخطيئة لكن الخطيئة تبقى مكانها ان انت حسبت انك صرت عفيفا لكونك تُمْسك. ليس الإمساك بشيء الا اذا جللته المحبة التي لا تنكسر عندها القلوب.
قد يظن بعض انك متكبّر لأن عندك أسلوب تعاطٍ لا يفهمونه أو لا يذوقونه أو انت حي فيحسبون انك لا تخاطبهم لأنك استعليت. افحص نفسك عند كل قولة. المهم ما يراك الله عليه في اليوم الأخير أو قبل انتقالك اليه. لكنك في الأخير لا تعرف نفسك مقيما في الانتفاخ الا اذا وبّخك ضميرك على ذلك فالكبرياء تُكسر كسرا حتى يحل محلها الحب.
• • •
مقابل هذا التضخيم للذات والعيش الدائم في الاستيهام يبدو التواضع انقباضا تصوريا للذات ولو كان المتواضع أعظم رجل في الدنيا. قد يرى في نفسه حسنات من الطبيعة كالجمال والذكاء وما الى ذلك ولكنها تبقى على حجمها من حيث انه لا يفتخر بها. فكل ما فينا من خيرات الطبيعة يأتي معنا بالخلق أو نرثه من الصالحين الذين يتجهون الى تغيير الكون. انت تشكر لاقتناء أو حرمان. كلاهما عطف إلهي ولو تغير الأسلوب.
المتواضع لا يقزّم نفسه اذ يحرّم الناس ما لهم حق فيه وبآن لا يدين نفسه ولا يجلدها. يأخذ بشكران ويفتقر بشكران. امام العطاء الإلهي ما من كلمة تبقى لك الا ان تقول مثل العشار في الإنجيل: "ارحمني يا رب أنا الخاطئ". حالتان مسجلتان فيك انك خاطئ وان ربك رحيم واذا ادركت رحمته تتبرأ من كل معصية مهما عظمت. فاذا رأى الخاطئ نعمة الرب نازلة عليه وتبتلع ذنبه كليا يرى نفسه لا شيء اذ يراها كل شيء. هذا هو الإنسان المتواضع.
عند المسيحيين نموذج الإنسان المتواضع هو يسوع القائل: "احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (متى ٢٩:١١). منذ سنين تتحداني هذه الآية اذ تسائلني لماذا لفت السيد فقط الى هاتين الفضيلتين فيه وله من المزايا ما لا يحصى. لعله رأى في التواضع الذروة اذ تستطيع ان تتدرج الى ما فوقها ولا تقدر ان تبلغها الا اذا دست كل الشهوات. وعلى الصعيد الفني في الكنيسة الأرثوذكسية هي أيقونة المسيح – العريس الذي يُرسم نازلا الى القبر عاريا ليختفي بالجسد كليا ويقوم من بين الأموات. المسيح العريس (او الخَتَن بالسريانية) عندما يقيم مشيئة الآب لا مشيئته البشرية ويتزوّج الانسانية كلها بموته.
وهاكم القديس العظيم إسحق السرياني المولود في قطر. "كل الكلام على التواضع هو الكلام على الله. انه وشاح الألوهة لأن الكلمة المتجسد تسربله وكلمنا عنه من خلال أجسادنا. فكل من يتسربله يتشبه حقا بذلك الذي انحدر من علوه وغطى فضيلة عظمته بالتواضع وستر مجده به".
ماذا يعني لنا هذا الكلام؟ انه يعني ان حياة الله خفية فينا ولم "يظهر بعد ماذا سنكون". عند هذا الخفاء لا يمكنك ان تظهر الله الا اذا أخفيت نفسك . الرب يظهر بك اذا أدركت درجة الخفاء أعني درجة اعتبارك لا شيء.
كان لي صديق سوري كبير مستقر في سويسرا وكنت قد نشّأته في مطلع شبابه على الايمان الأرثوذكسي وكانت شبيبتنا ملتهبة بالروح. ثم صار صديقا لكبار العرب في كل ديارهم وكان يستضيف بعضا منهم في دارته. ومرة بعد وفاته دعتني بنت له الى مائدتها. وقالت لي: ان والدي كان يتعامل مع الخدم عندنا بالتهذيب والوقار اللذين كان يحيط بهما رؤساء الدول العربية.
• • •
غنيا كنت ام كبيرا بين المثقفين اذكر ما ورد في نشيد مريم بحسب إنجيل لوقا: "حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين" (٥٢:١). اذا قلت: انا عزيز في قومي فقد أعطيت نفسك شهادة في الثقافة أو الزعامة. الله يعلّيك وحده واذا استعليت على أحد تجرحه. ولذا أقرن يسوع في ما ذكرنا الوداعة والتواضع اذ الوداعة تصير في الآخر كعسل في فمه اذ هي فن الإزالة لكل نتوء بينك وبين الآخرين لكونها بنت التواضع أو طريقا اليه. من هم قومك؟ "ان الشعب عشب حقاً. والعشب ييبس وزهره يذبل واما كلمة إلهنا فتثبت الى الأبد" (اشعياء ٧:٤٠ و٨).
لسان حال بعض مما حسب نفسه كبيرا انه يقول والآخر لا يقول. لأن من قال يصير شيئا والآخر في المطلق ليس بشيء. الاستكبار إلغاء معنوي للآخر اي لون من ألوان الإبادة. انت، متكبر، تضع لنفسك عرشا لم ترثه وافرض انك ورثته. تبقى على ترابيّتك وعظمك ولحمك وكلها فانٍ الى ان يقيمك ربك من الموت الروحي هنا بالتوبة التي تعرف بها انك دون الناس جميعا.
كتب أمير مولدافيا في القرن الرابع عشر لولي عهده: "لا تشتهِ ان تصير أسقفا أو رئيس دير ولا أميرا (والإمارة كانت مُعدَة له)، لا تشتهِ لأن كل هذا مجد العالم". المجد تُعطاه في اليوم الأخير إن صممت على ان تنأى عن أمجاد هذه الدنيا وقد يكسر الله العرش الذي أقامه لك خيالك فتصبح من الجائعين. جعْ الى اللّه ليجلسك على عرش له في السماويات.